افهم واقعك
الدكتور علي الحمادي
لقد سخر الشاعر العراقي معروف الرصافي من واقع الأمة العربية، وأبان سبب تخلّفها وتراجعها ولكن بأسلوب تهكمي لطيف، فكان مما قال:
يا قوم لا تتكـلمـوا إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النَّوم
وتأخّروا عن كل ما يقضي بأن تتقدموا
وتثبتوا في جهلكم فالشر أن تتعلموا
أما السياسة فاتركوا أبداً وإلا تندموا
إن السياسة سرها لو تعلمون مطلسـم
إن قيل هذا شهدكم مُـرٌّ فقولوا علقم
أو قيل إنّ نهاركم ليل فقولوا مظلم
أو قيل إنّ ثمادكم سيل فقولوا مفعم
أو قيل إنّ بلادكم يا قوم سوف تقسـم
فتحمّـدوا وتشـكّروا وتـرنّحوا وترنّمـوا
إن ابتعاد صانع التأثير عن واقع أمته ومجتمعه وعدم إدراكه له لهو خطأ جسيم يجعله عرضة لألاعيب اللاعبين ومكر الماكرين، بل ربما أصبح لهم وبأيديهم من حيث لا يشعر، ولربما أساء من حيث يظن أنه يحسن.
إن أمثال هؤلاء يذكرونني بما سطره أحمد شوقي حينما قال في قصيدته الرمزية (الديك والثعلب):
بـرز الثعلب يـوماً في ثياب الواعظينا
فمشى في الأرض يهدي ويسب المـاكرينا
ويقول الحمد لله إلـه العـالمينـا
يا عبـاد الله توبـوا فهـو كهف التائبينا
وازهدوا في الطير إنّ العيش عيش الزاهدينا
واطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا
فأتى الديـكَ رسـول من إمـام النـاسكينا
عـرض الأمـر عليه وهو يـرجو أن يلينا
فأجاب الديك عذراً يا أضلَّ المهتدينا
بـلّغ الثعلب عنّـي عـن جـدودي الصالحينا
أنهـم قالـوا وخير القـول قـول العـارفينا
مخطـئ من ظـنّ يوماً أن للثعلب دينـا
نعم، كم رأينا من أناس يريدون الخير لأمتهم ولكنهم جُرَّوا إلى معارك جانبية صرفتهم عن أهدافهم النبيلة، وكم شاهدنا من رموز طاولت هممهم السحاب ولكنها صُرفت في المفضول دون الفاضل، وفي المرجوح دون الراجح، بل لُبس عليهم فانغمسوا في توافه الأعمال وهم لا يشعرون.
إنها السياسة التي تتلاعب بمن لا يتقنها، وتجعله يدور في حلقة مفرغة، بل وينتهي دائماً من حيث ابتدأ، فيا للعجب!!
من هذا المنطلق فإنّه ينبغي لمن يود هندسة الحياة أن يكونَ عنده قدرٌ معقولٌ من الفهمِ السياسيّ، وأن يتابع المستجدّات، ويقرأ التحليلات السياسية، ويستمع إلى الحوارات السياسية، ويتأمل في واقع أمته، ويعتبر ذلك من صميم عمله لا من فضوله.
ولقد أجاب الداعية والمفكر الإسلامي الدكتور فتحي يكن عن خمسة أسئلة مهمة متعلقة بموضوعنا هذا، رأيت في تمام الموضوع ذكرها في هذا المقام، وإليك الأسئلة الخمسة وإجاباتها.
1- ماذا نعني بالوعي السياسي؟
عرَّف علماؤنا الأجلاء (سلفاً وخلفاً) الوعي السياسي بأنه إدراك لواقع المسلمين وواقع العالم، بكلِّ ما يعنيه ذلك من معرفة طبيعة العصر، ومشكلات البشر، والقوى الفاعلة والمؤثرة (الظاهرة والخفية) في مواقع القرار؛ لتكون هذه المعرفة مساعدة في حسن رعاية الأمة لمصالحها، وفي دفع المفاسد والأخطار عنها، فإذا كان معنى السياسة في الإسلام رعاية شؤون الناس فيكون الوعي لازماً لحسن القيام بهذه الرعاية.
2- ما هي أهمية الوعي السياسي؟
إنَّ غياب الوعي السياسيِّ يعني اضطراب وتعثُّر شؤون الناس، وهو حالةٌ شبيهةٌ بحالة فقدان الوزن وانعدام الرؤيا ونتيجته ضياع مصالح المسلمين، وتفاقم وتعاظم المفاسد بينهم وحولهم، وبالتالي ضعفهم وانهيارهم، وتعطُّل دورهم كأمَّة ظاهرة بين الأمم، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، شاهدة على الناس.
يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}
وفي لفتةٍ سريعةٍ إلى دور الأمَّة الإسلامية في الحياة يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
يقول الأستاذ الشيخ محمَّد الغزاليَّ رحمه الله: (إنَّ الفكر السياسيَّ عند جمهرة المتديِّنين يتَّسِم بالقصور البالغ، إنَّهم يرون الفساد ولا يعرفون سببه، ويقرؤون التاريخ ولا يكشفون عِبَره، ويقال لهم: كان لنا ماضٍ عزيزٌ فلا يعرفون سرَّ هذه العِزَّة، وانهزمنا في عصر كذا فلا يُدركون سبب هذه الكبوة)
3- ما هو دور الوعي السياسي في معرفة العصر؟
يجب أن يكون معلوماً أنَّ الوعي السياسيَّ هو المدخل الأساس لمعرفة العصر، والعنصر الأهمُّ في نجاح المشروع الإسلامي، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنَّ كثيراً من التداعيات التي تشهدها الساحة الإسلاميَّة وتتعرَّض لها الحركات والقُوى الإسلامية في العالم تعود أسبابها إلى غياب الوعي السياسيِّ، وبالتالي إلى التخلُّف عن معرفة وإدراك واقع العصر.
إنَّ المتغيرات السريعة والدائمة التي تمرُّ بالمجتمعات البشرية، والثورات التي قامت وتقوم، والتطورات التي طالت مختلف مناحي الحياة، لتؤكد ضرورة المتابعة اليوميَّة للمجريات، واستشكاف مدى أثرها على العمل الإسلامي بشكلٍ خاصٍّ، وما يتطلبُّه ذلك من تعديلٍ وتطوير.
فلابد من معرفة الواقع، ورصد الجوانب والقوى المؤثرة فيه، ولابد من رصد الأحداث وتحليلها واستكشاف خلفيَّاتها وأبعادها وآثارها. ولابدَّ من معرفة تقاليد العصر وأعرافه وثقافاته وعلومه والقوانين السائدة والبائدة التي توالت وتتوالى عليه. ولابدَّ من معرفة مشاريع الآخرين (أصدقاء وأعداء) والتجارب التغييريَّة المختلفة، واستكشاف أسباب نجاحها إن نجحت، أو فشلها إن فشلت. ثم إنه لابد من معرفة مصطلحات العصر ولغاته السياسيَّة والأدبية والعلميَّة، إضافةً إلى قراءة خطابه. هذا بالإضافة إلى الكثير ممَّا تجب معرفته التي قد تصل إلى مستوى فروض العين أو الكفاية الشرعيَّة.
4- هل الوعي السياسي شرط للصحوة الإسلامية؟
قد نظلم الحالة الإسلاميَّة عندما نطلق عليها صفة الصحوة إن لم تكن على مستوى عالٍ من الوعي السياسيِّ والإحاطة بالعصر؛ وهذا ما دفع ويدفع بكثيرٍ من الدعاة والعلماء إلى التأكيد دائماً على ضرورة تأهيل أبناء الصحوة بكلِّ ما تتطلَّبه الصحوة؛ بل إنَّ هذا ليؤكد وجوب إعادة النظر في مناهج التربية والتكوين ووسائل ووسائط بناء الشخصية الإسلامية، وصدق من قال: (رحم الله امرءاً عرف زمانه واستقامت طريقته).
5- ما هي الآثار المترتبة على غياب الوعي السياسي؟
إنَّ لغياب الوعي السياسيِّ آثاراً سيئةً يصعبُ تحديدُها وإدراكُها بالكامل؛ لأنَّ ما يتسبَّبه هذا الغياب من انعدام وزنٍ يؤدِّي إلى حالةٍ من توالدٍ بلا حدودٍ للتداعيات، وحسبي أن أنقل هنا بعضاً منها ورد في دراسةٍ كان قد أعدها أحد الإخوة كمشروع كتاب حول الوعي السياسي، ففيها ما يكفي ويحقِّق الغرض بعون الله تعالى:
أ- عدم فهم اللغة السياسيَّة التي يتخاطب بها الناس من حولنا؛ سواء على مستوى الألفاظ ومدلولها، أو على مستوى الأساليب وأبعادها، كمصطلحات النظام الدولي، والشرق الأوسط، والتطرُّف، والأصوليَّة، ومقاومة الإرهاب، واللوبي، وصدام الحضارات، والعولمة.. إلخ.
ب- عدم القدرة على استقراء اتِّجاهات الأحداث في العالم.
جـ- العجز عن وضع الخطط المناسبة للتحرَّك.
د- تنفيذ خطط القوى المعادية وخدمة أهدافها دون الشعور بذلك.
هـ- الوقوع في تناقضاتٍ حول الخطوات المناسبة للمواجهة.
و- السقوط في مصيدة الاختراق السياسيِّ – الفكريّ؛ وهذا ممَّا يبلبل المسيرة.
ز- عدم الاستفادة من الفرص المتاحة ونقاط الضعف في جسم العدو السياسيِّ.
ح- الانشغال بغير العدو الحقيقي، والاشتباك مع التيارات الأخرى الموازية أو الحليفة المفترضة.
ط- فقدان الثقة بالعمل الشعبي المنظَّم كأداة صراعٍ ضدَّ الخصوم.
ي- ضياع الفرص المناسبة، مع عدم الانتباه إلى الخسائر الراهنة والبعيدة المدى.
وأخيراً.. فإنه لابد من التأكيد على ضرورة الاهتمام بالوعي السياسي لنجاح المشروع الإسلامي والعاملين فيه، وعلى أن يتحقق هذا الاهتمام عبر محاضن التربية، ومناهج الإعداد، وبرامج التكوين، من خلال دورات تنظّم خصّيصاً لهذا الغرض، والله المستعان، وعليه التكلان