برد وشتاء.....
قلم أحمد العشرى
عدت من عملي مبكرا , لم أشأ أن أفتح النافذة ,,
الجو سيء جدا بالخارج
نهرت نفسي لأنني تحدثت بصوت مسموع مجددا,, قرأت تحذيرًا طبيًّا من الاعتياد على الحديث بصوت مسموع بينما أنت وحدك .لكنني اعتدت على هذا.. أقول جملة قصيرة بصوت مسموع وأظل أفكر فيها أو أرد عليها في صمت .
قلما تصاب مدينة ( أبوظبي ) بنوبات شتاء عاصفة.
اتسعت عيناي ... لقد فعلتها مجددا ..
اللعنة
لا يهم من يدري ربما كان طبيبا غبيا كتب مقالة أغبى في مجلة أشد غباء. ضحكت بصوت مسموع ثم أكدت الفكرة
نعم .. نعم .. بالتأكيد هي مجلة غبية
ارتديت رداء النوم ثم مددت جسدي فوق سريري وأشعلت التلفاز, دقائق ثم شعرت بحرارة الجو
يا إلهي لقد نسيت تشغيل المكيف
جذبني صوت الأمطار بالخارج فدعاني ذلك للضحك
أمطار وعواصف بالخارج بينما أقوم أنا بتشغيل جهاز التكيف
قلتها متعجبا لذلك التناقض الغريب
ولمَ العجب ؟
لقد بدأت البديهيات تتلاشى .. كم من مترادفات فقدت معانيها
الصديق - الحب - البرد - الإنسان - الحياة .. ها هي الأيام تمضي لا صديق لا حبيبة لا أنيس, إذا لا داعي للتعجب. لقد جاء المطر ومعه العواصف بينما لم يأتِ البرد .. لا تتعجب
صمت التلفاز فجأة فنبهني الصمت إلى أن إشارة البث قد توقفت.. لكنها عادت ومعها إعلان المذيع عن مباراة هامة بين ناديي العين و... توقفت الإشارة من جديد بسبب الجو العاصف بالخارج فتساءلتُ
ترى من سيلاقي نادي العين ؟
أجبت نفسي في صمت وتهكم وهل تعرف أنت من فرق الدوري هنا سوي فريقين ؟
حقا لا أعرف سوى ناديين ( العين والوحدة )
عجبا رغم كل هذه السنين لا تعرف أسماء فرق كرة القدم هنا , بينما لازلت تتذكر جميع أسماء الفرق واللاعبين في مصر .
ما أصعب أن تلفظك الأشياء وتظل تسكنك هي... رغمًا عنك.
لفظت تنهيدة طويلة ثم ذهبت إلى حيث لا أعرف إلى حيث أراها كل ليلة ولا أعرف من هي .. هي كل المعاني في أنثى هي كل الأشياء في أنثى هي كل الصفات والأحداث والأحوال في أنثى . انتبهت من شرودي على مؤشر القناة وقد عاد ما لبث أن توقف من جديد مما دفعني لإغلاقه كلية .
لننام .. من يدري ماذا سيكون غدا
لو أنهم كانوا يعرفون أنه سيأتي يوم ويكون شتاء الجزيرة العربية كما هو الليلة, لأحكموا ربط الأطباق فوق الأسطح عندها لم يكن للإشارة أن تتراقص هكذا .
فجأة حدث ما جعلني انتفض تحت غطائي فهممت واقفا فوق السرير , هناك صوت خلف شباك النافذة ..
ترى ماذا هبط عليّ من السماء إنني أسكن في الطابق السادس
بهدوء مفتعل مليء بالحذر فتحتُ النافذة .. رأيتها تجلس في استكانة . تلاقت العينان , نظرتْ إليّ نظرة عجيبة خليطـًا بين العتاب والحزن والاستعطاف . بريق عجيب يملأ حروف صمتها
كيف تركتني طوال اليوم ها هنا .. كدت أسقط
هكذا قرأتُ في عينيها فسارعت بأسئلتي
متى جئتِ ؟؟
من أين جئتِ ؟؟
كيف وصلتِ إلى النافذة ؟؟
كيف لم أنتبه لكِ عند إغلاقي للشباك في الصباح ؟؟
بعد أن انتهيت من أسئلتي . شرعتُ في إعادة ترتيب أوراق يومي عساني أجد الإجابة .
بينما أفكر قفزتْ هي إلى داخل الغرفة ثم استكانت على مقربة مني .. كل هذا وعيناها ثابتتان في اتجاهي تحمل ذات النظرة المليئة بالعتاب والضعف والحب .
يوجد احتمالان
جئتِ مع بائع الجرائد وتسللتِ إلى هنا بينما أعد قهوتي . ومع العجلة في الصباح لم أنتبه لكِ عند إقفال الشباك. أو أنكِ تسللتِ من فوق المكيف إلى شباك النافذة .
هكذا إذن .. أقدم لكِ اعتذاري آنستي
تنبهت إلى كلمة آنستي فاندفعت ضاحكا ...
يا ويلي ..سوف أجن .. أقسم أني سوف أجن.. هكذا أرى بداية طريق الجنون في الأفلام
تملكني هاجس الجنون للحظات لكنني عدت ودفعته سريعا بالعودة والتفكير في أمر هذه الهرة وماذا سأفعل بها. صفقت بيدي محدثا صوتا لإخافتها , بعدها أشرتُ لها نحو الباب لتخرج, لكنها لم تحرك ساكنا
لابد وأنكِ جائعة , لن يضر إطعامكِ
أحضرت لها بقايا طعام الصباح مع كوب من اللبن داخل أطباقي المهملة ثم دعوتها
هلمــي .... بصلة المحب خروف
انتبهت لكلمة المحب فاندفعت ضاحكا من جديد , انتهتْ من الطعام سريعا جدا , فوضعت لها كوبًا آخر من اللبن , تناولته على مهل وما أن انتهتْ رفعتُ الأطباقَ من أمامها , ثم أشرت لها نحو الباب لتخرج , رفضتْ في البداية عبر نفس النظرة المليئة بالاستعطاف والضعف وشيء من الحب أردت أنا أن أراه , لكنها وتحت وطأة إلحاحي وصوت تصفيقي العالي استجابت وخرجت في هدوء . عدت إلى سريري
لننام من يدري ماذا سيحدث غدا .. ربما أجد كلب ينتظرني في الثلاجة
كدت أضحك على كلماتي لكن صوتها أمام الباب وقف حائلا أمام ضحكاتي, نظرتٌ إلى سقف الغرفة ثم استنكرت ما يحدث
يبدو ان هذه الليلة لن تمر بسلام
قلتها ثم توجهت إلى الباب فتحته ثم دعوتها للدخول ,
ادخلي لكن إياكِ والضجيج .. أنا فقط من يحدث الضجيج في هذه البلدة الآلية
دخلتْ وكأنها تعرف طريقها , علي مقربة من سريري جلستْ فجعلت من قدميها الأماميتين متكئا لرأسها.. أما أنا فافترشت سريري ثم خلدت إلى نومي الذي لم يأتِ إلا بعد دقائق عديدة من تبادل النظرات الباسمة والصامتة معها .
في الصباح وبعد أن تناولت قهوتي أعددت طعام إفطارها , ثم انتظرت بائع الجرائد الذي وما أن وصل طلبت منه اصطحاب قطته . فنفى تماما أن تكون له صلة بها وأقسم أنها المرة الأولى التي يراها فيها. لكنه على كل حال سيأخذها معه ويضعها أسفل البناية . تناولتُ الصحيفة في يدي ثم اندفعتُ إلي عملي الكئيب كمراجع حسابات في إحدى الشركات الكئيبة.
أخذ حادث القطة نصيب الأسد من تفكيري وحواري إلى نفسي طوال فترة العمل حتى في فترة الغداء بل اليوم بأكمله, ليس لأهميته بل ربما لعدم وجود شيء آخر افكر فيه . خرجتُ من العمل فتوجهتُ إلى الشاطئ حيث اعتدت تناول عشائي , عدت إلى المنزل لأجدها في انتظاري أمام باب الشقة .. ما أن رأيتها اندفعت ضاحكا وتقمصت دور نزار .
أتحداكِ أنا أن تجدي وطنا مثل غرفتي وسريرا دافئا مثل سجادتي
قلتها وصوت ضحكاتي يؤنس خطواتي إلى الداخل.. سبقتني هي إلى الغرفة , فصالت وجالت عبر قفزات رائعة هنا وهناك , لم أتوقف عن الحديث معها بينما أعد لها لبن العشاء ,وضعتُ لها الطعام حيث وضعته البارحة واستقبلتُ سريري لألاحظ أنها لم تتناوله كله . نظرت لها متهكما
يبدو أنكِ كنتِ مدعوة على عشاء راقص يا عزيزتي
طوال جلستي اتابع التلفاز بينما أتحدث معها , كنتُ كلما حدثتها عن شيء والتفتت هي إلى التلفاز – مصادفة - اندفع ضاحكا
يبدو انكِ تفهمين عن ماذا أتحدث وماذا أقول يا قطتي الحبيبة ..
خلدتُ إلى النوم ومن ليلتها وإلى شهور عديدة تالية لم يختلف الحال كثيرا ولم يجد جديد ,, فقط اهتمامي بها يزيد , نظراتها وأفعالها تتنوع بشكل يزيد من تعلقي بها كل مساء .إلى أن لاحظت أن بطنها تكبر يومًا بعد آخرفتأكدت بعد أن تحسستها بأنها حبلى, شعرت بالحنق والضيق وظللت أعنفها طوال الليل
أي قط سافل فعل بكِ هذا .. هل سأتحمل أنا مسؤليتك ومسؤلية ...
لم تجب فقط اكتفت بنظرة الانكسار والذل ومواء خفيف بين الفينة والأخرى.
تمضي الليالي ونحن في حالة خصام لا أحدثها مطلقا, فقط أضع لها كوب اللبن المعتاد.ثم أنهمك صامتا في متابعة التلفاز , إلى أن جاءت ليلة وضعها .
من تلقاء نفسها تركت الغرفة واندفعت إلى زاوية المطبخ البعيدة . فهمتُ ما هي فيه فنظرت لها نظرة شفقة لكنني – ولا أعرف لماذا – عنفتها
أين هو الآن منكِ يا عاهرة
بدأت تُـصدر أصواتًـا مرعبة , وكأنها صارت فجأة من البشر .. تلك الآهات المخيفة تشعرني أنني بصحبة امرأة وبالفعل تلد , لم أمنع نفسي من إلقاء نظرة عليها بين وقت وآخرلكنني لم أكف عن تعنيفها
هذا نتيجة فعلتك .. فلتتحملي أيتها الساقطة
جاء الصباح هي راقدة في فرح وخنوع ... بينما هم يأكلون من أثداءها. وضعتُ طعامها في الزاوية المقابلة , ثم انصرفت إلى عملي دون طعام او تناول القهوة , وفي عملي وبعد تفكير طويل ومحادثة مع الذات استمرت لساعات .. أخذت قراري .
سأحملها وأذهب بها إلى مكان بعيد هي وأبنائها
إلى هنا ولابد أن تتوقف هذه المهزلة , لقد أصبح الأمر لا يطاق . عدت فوجدتها وأبنائها في انتظاري.. أعددت لها الطعام وما أن تناولته, برفق مني واستسلام غريب منها وضعتها هي وأبنائها في كيس كبير , ثم انطلقت بسيارتي مسافة كافية وبالقرب من حاوية قمامة تركتها .. شعرت بوخز الضمير لذنب لا أعرفه وإن عرفته فأنا لم أرتكبه
في طريق العودة توقفتُ أمام محل بيع للحيوانات الأليفة فاشتريت قطة نظيفة أنيقة المظهر. وبينما تحملني السيارة في اتجاه المنزل توقفت
أي أحمق أنت .. ألا تتعلم أبدا
عدت إلى المحل مجددا فاستبدلت القطة بقطـ جميل , تمر الليلة الى جواره بصعوبة شديدة .. كلما أغمضتُ عيني أراها تنظر إليّ .
اكتشفت أن حركاتها البسيطة منحوتة على جدار ذاكرتي الضعيف ..التفاتتها إلى التلفاز , قفزاتها من فوق السرير إلى الأرض . أو العكس , نظرتها الجوعى أو الشبعى إلي طعامها .. مواؤها أمام الباب عندما كانت تنتظرني. قاومت سطوتها على أفكاري وانهمكت في حديث مفتعل مع قطي الجديد الذي شعرت بأنه دمية سخيفة لا يصدر منها أيّ حياة
كم أنت قطـ بارد وسخيف .. لو لم أشترك بيدي لشككت أنك دمية ..
لم لا تصدر أيّ حركة مميزة ؟
مالي أراك تنظر لي وللأشياء من حولك نظرة بلهاء؟
أتسخر من حديثي أيها الأحمق ؟
نظرتُ إليه نظرة ازدراء ثم استسلمت لنداء نومي .. في اليوم التالي وبعد انتهاء العمل عزمتُ على إصلاح الأمر, حملت القط واندفعت إلى متجر الحيوانات فقمت بإعادته. ثم توجهت بالسيارة إلي حيث تركتها فلم أجدها .
ربما ذهبت هناك .. لا يوجد شيء
إذن لابد وأنها ذهبت هنا ... لا يوجد شيء أيضا
بحثتُ عنها في كل مكان لكن باءت محاولاتي بالفشل .شعرت عندها بالحسرة والندم
يبدو بالفعل أننا لا نستطيع أن نلفظ أشياء تسكننا
دخلتُ أجر خطواتي الوحيدة في صمت, لم أقم بتغير ملابسي . جلستُ فوق السرير فدفنت رأسي بين قدماي واستسلمت لدمعة حارقة قاومتها طوال الطريق , لم أكن أبكي قطتي بقدر بكائي ذلك الشعور اللعين بالوحدة .. شعرت عندها بالبرد الشديد رغم أن الليلة لم تكن شتوية. مددت جسدي تحت غطائي وقبل أن يأخذني خيالي إلى أبعد من مكاني تنبهت لصوت شديد خلف شباك النافذة.