لوحة حية
*******
ما أن دلفتُ إلى الشقة شعرت بألفةٍ عجيبة بينما أتنقل يمينًا ويسارًا, ورغم أنها المرة الأولى التي أدخلها وأرى ما فيها لكنني أشعر وكأنني رأيتها مرارًا وتكرارًا , كلما اصطدمت عيناي بمقعدٍ أو قطعةٍ حجرية موضوعة بعناية في مكان محدد أشعر كأنني لامستها من قبل وكأن يداي هي من اختارت لها هذا المكان .رفعتُ عينيَّ إلى اللوحةِ الكبيرة المرسومة والمعلقة على الجدار, شعرت بالاضطراب وما أن قرأت المكتوب أسفلها ذُهلت ومن ثمّ شعرت بالدوار, فألقى بي جسدي على أقرب مقعد . . .
في بداية معرفتي به لم يكف عن إثارة علامات التعجب بداخلي, إذ مع كل مرة أراه فيها عن قربٍ, يترك في نفسي شعورًا متناقضًا تتنازع أطرافه الشفقة والتوجس والحزن ..
أتذكر أول مرة رأيته فيها.... كنت حريصا رغم تقدم سنوات عمري على ممارسة هوايتي في لعب كرة القدم برفقة أصدقائي ليلا, قذفتُ بالكرة بعيدًا وكان العُرف يقضي بيني وبين الرفاق أنَّ من يقذف بالكُرة بعيدا عليه إحضارها.
حملتني خطواتي صوب المكان التي ذهبت إليه الكُرة وبينما كنت أبحث في ضوء القمر وبقايا الأشعة الممتدة من أعمدة الإنارة, توقفتٌ فجأة وتوجستُ خيفةً من تلك الهيئة الآدمية التي تجلس وأمامها كُرتنا المنشودة.
ألقيتُ السلام فأجاب في هدوءٍ ثم نهض واقفا,,,, سألني في جمودِ عينيه المنطفئتين
- هل أنت صاحب المرسم ؟
بلهفةٍ يصحبها عجب أجبته
- نعم .... هل أستطيع خدمتك في شيء ؟
- نعم ... لا لا ... شكرًا يا ولدي
بعدها حل الصمت فشعرت وكأن الدنيا قد خلت من الخلائق وبقيت أنا وهذا الرجل يجمعنا موعد لم نضربه سلفا ,وها هي أرواحنا تتصافح بريبةٍ ممتدة وحذر يعني الخوف من المجهول .
لا أعرف قدر الثواني التي مرت ,لكنني شعرت بطول مساحة الصمت التي مكثت فيها أتأمل ملامح وجهه..كسرتٌ جدار الصمت فاستأذنته الكُرة القريبة منه .. ضربها تجاهي ثم قال باسما
- لمَ تركلها بعيدا طالما تحبها ؟
تبسمت كإجابة لم أملك سواها ثم استأذنته واندفعت عائدا بالكُرة , ولما نقلت الخبر لرفاقي, ما فتروا السخرية مني ومن إدعائي بأن هناك رجلاً عجوزًا ترسم ملامح وجهه التجاعيد يحمل لحية خفيفة يتحدث بهدوء كما حكماء الأفلام القديمة ظهر وحدثني بينما أبحث عن الكُرة .
هذا إلى أن ظهر ثانيةً بعد أيامٍ وأنا بصحبتهم فكان خير تأكيد لروايتي السابقة, كنا نتناول القهوة في الحديقة العامة, اقترب منا في هدوء ثم سألني
- هل لي بكلمة ؟
- تفضّل
- اسمي سعد , أبحث عن عمل وعلمت أنك تريد عاملا في المرسم
هممت أن أعتذر له إذ تخبرني هيئته وأصابعه المرتعشة أنه غير أهل للعمل في المرسم ,لكن يبدو أن نظرة عينيه كبّلت حروفي , تلعثمت الكلمات فوق لساني فأعدت ترتيبها في هدوء فطلبت منه إعطائي رقم هاتفه ووعدته بأني سأتصل به قريبا إن شاء الله .
في المساء و بينما يجمعني الفراش بزوجتي, لا أعرف لماذا ظهر وجه هذا الرجل فجأة في سقف مخيلتي ليفسد عليّ حلاوة خلوتي بها ولما سألتني عن سبب شرودي فجأه .أخبرتها عن هذا العجوز الذي يريد العمل في المرسم ورغم اقتناعي التام بعدم أهليته للعمل هناك شعور ما يدفعني للقبول به في المرسم . .تعاملت زوجتي مع الأمر بلا مبالاة لم تدهشني, إذ أعلم مسبقا أن أمر المرسم بكل ما يمت إليه بصله لا يعنيها .
بعد أيام عقدت العزم واتصلت به وجاء واستلم مفاتيح المرسم وبدأت رحلة معرفتي به عن قرب, ومع الأيام تبدَّد هذا الشعور بالتوجُّس وإن ظلت عينيه ترسم في روحي لوحات حزينة تعجز فرشاتي عن تجسيدها .
ولما سألته ذات يوم عن سبب هذا الحزن الساكن عينيه أجاب بأن الإنسان إذا ما فقد الخليل فستصير عينيه مأوى للحنين لمن رحلوا .
كنت أقابل حروفه بشيء من الإشفاق على زوجته الراحلة وابنته الوحيدة التي ماتت في مقتبل العمر . وكنت دائم الدعابة معه محاولا إدخال البهجة والسرور في نفسه .
و مضت الأيام بصحبته جميلة هانئة لا يعكر صفوها إلا نفوري من المرسم ومن اللوحات ومن نفسي كلما عجزتٌ عن تطويع فرشاتي في تجسيد ما أريد .
حدث أن تغيب ليومين عن العمل ولما اتصلت به ووجدته مريضا كان من الضروري أن أذهب لأعوده , ذهبت إلى حيث وصف لي العنوان .
كان رغم مرضه حريصا على إكرام ضيافتي, لذا وما أن دلفت إلى الشقة وبعد أن رحب بي قدر استطاعته محاولا التغلب على السعال الذي يصيبه كلما تكلم , إندفع إلى الداخل ليعد لنا الشاي. استأذنته في التنقل بين أرجاء الشقة فجاء صوته من بعيد يخبرني أن أتعامل وكأني في منزلي .
بينما أتنقل يمينا ويسارا شعرت بألفة عجيبة ورغم أنها المرة الأولى التي أدخل الشقة فيها وأرى محتوياتها لكنني شعرت وكأنني رأيتها مرارا وتكرارا , كلما اصطدمت عيناي بمقعد أو قطعة حجرية موضوعة بعناية في مكان محدد أشعر كأنني لامستها من قبل وكأن يداي هي من اختارت لها هذا المكان .دخلتٌ إحدى الغرف, رفعتُ عينيّ إلى الصورة المرسومة والمعلقة على الجدار فشعرت بالاضطراب, وما أن قرأت المكتوب أسفلها ذُهلت ومن ثمّ شعرت بالدوار, فألقى بي جسدي على أقرب مقعد . . .
عادت بي اللوحة سنوات للوراء .... كنت في طريقي مهموما عائدا من الجامعة إلى المنزل استوقفتني فتاة ورغم الحسن تبدو متعبة مرهقة وكأنها قادمة من سفر بعيد كانت تتكلم بخجل وبحروف متقطعة, خلصتُ منها بأنها تريد مساعدة . وقتها كنت أحمل موقفا عدائيا من الشحاذين فمضيتُ في طريقي غير مباليا بها .وبعد خطوات عدة حضر إلى ذهني صوت أستاذي في الجامعة بينما يتهمني بأن رسوماتي جامدة ميتة لا تحمل في جوفها أدنى معان الحياة , ونصحني بأنني إذا ما أردت النجاح والتخرج فإن عليّ اللجوء إلى الواقع الحي لرسمه طالما أن خيالي لا يحمل إلا صورا لبشرٍ جامدين وكأنهم دُمى تصنعها فرشاتي .
ولما لم أكن أحمل خبرة كافية كرسام في الحصول على موديل, عدت إليها مسرعا وعرضت عليها المساعدة شريطة أن توافق أن أرسمها ,ترددت في البداية طويلا لكنها في النهاية وافقت بشرط أن تحصل على مبلغ مقدم وأن نبدأ الرسم من الغد وستعطينني بطاقتها الشخصية كضمان .
في الحقيقة لم يكن المبلغ مبالغا فيه فأعطيتها إياه وأخبرتها عنواني ثم انصرفتُ موُدِعا البطاقة جيبي دون أن أهتم في مطالعة بياناتها.
في اليوم التالي وبعد انتهائي من الجامعة عدت لأجدها أمام باب شقتي , ابتهجتٌ لأنها التزمت بموعدها وما أن فتحتٌ الباب ودعوتها للدخول بدأتٌ أقرأ في عينها الخوف خاصة عندما لاحظت أنني أعيش بمفردي. فأخبرتها سريعا بسفر عائلتي و طمأنتها بأني ما جئت بها إلا للرسم وفقط .
كنت أحمل في مخيلتي المشهد الذي أود أن أرسمها فيه . وبمشقة وإغراء النقود أقنعتها, أحضرت لها رداءً شفافًا يكشف مفاتنها بنعومة واستحياء متناهيين وكان عليها أن تقف بالقرب من الشرفة تلقي بنظرة مشرقة على المدينة .
كل شيء يتم وفقا لما أريد إلا نظرتها, جاهدتٌ قدر الاستطاعة في أن أجعلها باسمه. لكنها علمتني أن العيون لا تنطق إلا بما يسكن الروح .جاءت نظرتها خائفة حزينة . ضايقني الأمر في البداية لكنني ومع الأيام أحببت النظر اليهما .
ورغم أنني عدلت المشهد ليبرز ملامح وجهها بوضوح ومن خلفها المدينة لم أجعلها تتخلى عن هذا الرداء الشفاف الذي أحضرته لها .
بينما كانت تقف أمامي كنتٌ على غير عادتي - ولا أعرف لماذا- لا أكف عن الحديث أخبرها عن حياتي وعن الجامعة . وعن كل تفاصيل يومي الصغيرة .
وطلبت منها أن تحدثني عن حياتها وتتخذني صديق وكما نجحت تحت وطأة عوذها أن أجعلها تخلع رداءها العفيف وترتدي ردائي الشفاف نجحتُ أن أجعلها تخلع رداء الصمت , فأخبرتني عن رحيل والدتها ومرض أبيها ووحدتها في هذه الدنيا .
سألتني عن سبب ترتيبي الشقة على هذا النحو الجامد . فأخبرتها أن لكل شيء في حياتنا مكان محدد يجب أن يوضع فيه . كانت تنصت وتنظر لي بينما أتحدث وكأنها طفل يمضي في المدرسة وأيامه الأولى .
صار لقاءي معها والنظر إلى قوامها الممشوق وعينيها ثم الرسم على مهل هو الأمر المحبب إلى نفسي . وهكذا لم أنتبه إلى عقارب الأيام بينما تمضي ولم أنتبه إلى روحي بينما تسقط في بئر حبها .
كنت دون أن أدرك أزرع شجرة حبي في روحها وبكامل إدراكي أجعلها ملهاتي وسر نشوتي في أيامي الخوالي . ما أن أوشكت على الإنتهاء من اللوحة شعرت بأن أحاسيسي تمضي نحوها كقطار فاق الضوء سرعة . أخبرتها بمشاعري فصمتت والخجل يُزيِّن تلك النظرة الحزينة التي ما فارقتها .
حدثت صديقي كثيرا عنها ولما أخبرته عن محنتي وعشقي لها فأرشدني أنني راغب فيها ليس أكثر وعلل هذا بطول الفترات التي تقف فيها أمامي بهذا الرداء الشفاف ومن الطبيعي أن تتحرك غرائزي نحوها ,حاولت إقناعه بأن الأمر أعمق من الغرائز فنهرني قائلا
( ويلك... أصدقت أن أباها مريض ولولا مرضه ما رضيت بالوقوف أمامك شبه عارية, أقسم لك لو كنت أكثر سخاء لخلعت ما تبقى من ملابسها ولسبقتك إلى الفراش )
لم تنتشلني حروفه من بحر الحيرة أكثر مما ألقتني فيه وعندما قابلتها لوضع اللمسات النهائية على اللوحة وجدت لساني قد أختار الصمت رفيق ودرب, أمسكت الفرشاة لكنني لم أحرك ساكنا في اللوحة نظرت لي قائلة
- ما بك
وما شعرت بنفسي إلا وأنا أجذبها نحوي, دفعتني بقوة فاقتربت من أذنيها هامسا بكلمات كنت أعنيها لحظتها
- أحبك ... سأتزوجك
هنا تحولت بين يدي ّ من أسد جريح إلى طفل حاني ...
ظلت علاقتنا ماكثة إلى أن تم تخرجي , وعندما أهديتها اللوحة كانت حريصة على أن أكتب إليها إهداء فكتبت أسفلها
( إلى الريح التي سكنت روحي فبعثرتها, وإلى الروح التي سكنتها ولن أبعثرها )
مع الأيام واستيعابي للهوة الشاسعة التي تجسد الفوارق بيننا بدأت أشعر بأنني وإن أحببتها صدقا ورغبت فيها فلن أستطيع أن أجعل لها مكانًا في مستقبلي .
كثر إلحاحها بضرورة مقابلتي لوالدها لكنني لم أفتر من اختلاق الأعذار للتهرب من هذا اللقاء ومن هذه الزيجة التي بدأ عقلي يرفضها, ومع كثرة تهربي منها رحلت تاركة رسالة قصيرة كتبت فيها .
( إما أنت وإما الموت .. بطاقتي الشخصية معك فيها عنواني إن أردت لقاء أبي )
بحثت عن بطاقتها في كل مكان فلم أجدها, ولا أعرف حقا هل لو كنت وجدتها كنت سأذهب إلي أبيها أم سأذهب إليها لإكمال مسلسل تحسين صورتي والتنصل من وعودي لها في هدوء .
أخبرت صديقي عن افتقادي لها وشعوري بالذنب فدفع عني الندم قائلا
- صدقني لقد كنت في نظرها صيد ثمين وها هي تحيك أخر محاولاتها للإيقاع بك .
جاهدت نفسي في رحلة نسيانها ومع الأيام نجحتُ ولم تعد تطرق أبواب ذاكرتي إلا على استحياء . ولما عادت عائلتي استشرتهما في الأمر فأكدا لي أن خير الأمور ما فعلت . وشرعا في سرعة ارتباطي من ابنة خالتي .
أوقف سيل الذكريات الذي تحمله اللوحة وصاحبتها. قدوم الرجل وبين يديه كوبين من الشاي , لم ألتفت إلى كلمات ترحيبه المكررة ثم سألته
- من صاحبة الوجه الحزين في اللوحة؟
- إنها ابنتي رحمها الله
- إبنتك !!! كيف
أقصد كيف ماتت ؟
جاءته نوبة من السعال التي تمنيت أن تنتهي سريعا ليتمكن من إخباري, ولما طال سعاله مد يديه إلى احد الأدراج ثم أخرج جريدة تبدو من لونها الأصفر وتآكلها أنها قديمة . وقفتٌ مسرعا في مكاني تناولت الجريدة في نهمٍ منه وما أن صوبت عيناي جهة الخبر صُعقتُ لصورتها مكتوب أسفلها
( انتحار فتاة في مقتبل العمر)
تركت الخبر مذعورا ووجهتُ نظري إليه
- كيف .... لماذا ؟ أقصد لماذا انتحرت ؟
فأجاب بكلماتِ يقطعها السعال
- لا أعرف كل ما تركته هذه الرسالة
ثم مد يديه ثانية إلى الدرج وأخرج رسالة مكتوب فيها
( لا تحزن يا أبي فقد سكنت روحي ريح بعثرتها )
لم تستطع قدماي أن تحملني أكثر من ذلك , حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أخفي ملامح وقع تلك الصدفة العجيبة . استقبلني المقعد في صمت
ثم سألته في صوت يرتجف
- هل تعرف من رسمها قبل أن ترحل ؟
- ليتني أعرف ... ما أعرفه انه ثمن هذه اللوحة كان دوائي بينما كنت طريح الفراش
اختارني الصمت بلا إرادة, وبينما الدوار يشعرني بأنني أسقط من هوة عالية وما لمست الأرض بعد , أراها أمامي ترسمني في لوحة حية,, الحزن عنوانها,, ووجه أبيها ونظرات عينيه -التي تسكنها - تجلدني منذ المرة الأولى التي رأيته فيها دون أن أعلم ودون أن يعلم .