التليفزيون فى عقولنا
جاءتني بخطوات مترددة وجلست أمامي, نظرت إليها فعرفت أن شيئاً ما يدور في خلدها وهو ذاته الشيء الذي أتت من أجل الحديث عنه. انتظرتها أن تبدأ, ولكنها لم تفعل. فابتدرتها قائلة:
= ماذا يشغل هذا الرأس الجميل؟
- فابتسمت ابتسامة حزينة, وقالت: إنني تافهة.. لا شيء يشغل عقلي.. تائهة..
هالتني كلمات الفتاة ذات الثمانية عشر عاماً.. ولكني سررت أيضا لأنها اكتشفت عيباً خطيراً فيها وتواجهه وتسعى للتغلب عليه. وما أكثر من عرفتهم يعانون ذلك العيب نفسه دون أن يفطنوا إليه, فضلاً عن أن يواجهوه ويبحثوا عن حل له.
= وكيف عرفت ذلك؟
تنهدت وقالت, والحزن يملأ عينيها:
- كان هذا منذ أسبوع.. فقد تعطل جهاز التليفزيون الخاص بالأسرة, وعندما علم والدي, غضب منا جميعاً. وأقسم ألاّ يتكفل بتصليحه إلا بعد شهر حتى" نتأدب ونعرف قيمة الفلوس".
= فقلت لها من وراء ابتسامة هادئة: وماذا في ذلك؟! ستتعودين حتى ينقضي الشهر و..
- فقاطعتني: لقد أصلحه بالأمس.. المصيبة أننا جميعاً وأبي أولنا لم نستطع فراق التلفزيون أكثر من يومين.. وبدأت المشاحنات بيني وبين إخوتي, بل وبين أتي وأمي كذلك. أحسست بالملل يملأ كل ركن من أركان البيت.. ما عدنا نحتمل الصمت.. لقد تحول البيت إلى قبر بدون التليفزيون.
توقفت لتلتقط أنفاسها, ثم أردفت: هكذا كما أقول لك.. لم أجد ما يشغل وقتي.. تمر الساعات والليالي والأيام دون أن أفعل أي شيء يذكر؛ سوى الشجار مع إخوتي.. وفي النهاية عندما عاد التليفزيون عاد كل شيء إلى طبيعته.. يا لنا من بؤساء.. إن أدمغتنا قد تحولت إلى أجهزة استقبال.. وليتها حتى تفرق بين القبيح والحسن فيما تستقبله, ولكن كل شيء وأيّ شيء.
= تنهدت وقلت لها: إن هذا للأسف حال كثير من الناس في وقتنا هذا!!
- أشعر كأني ممسوخة. نسخة مسجلة من البرامج والأفلام والمسابقات والمسلسلات التي تعرضها القنوات المختلفة. أشعر كأني نسخة من آلاف أو ملايين النسخ المتشابهة؛ طريقة كلامي ومظهري وأفكاري وبالتأكيد شيء من سلوكياتي منقولة أو مستوحاة مما يعرضه التليفزيون. إنهم للأسف الشديد يشكلوننا.
= ربت على كتفها وقلت: لا عليكِ الآن.. وإنه لشيء ينبأ بالخير حقاً أن فتاة في سنك تتوصل إلى تلك النتيجة.
- ولكن كيف أملأ عقلي الخاوي على عروشه هذا؟!!. كيف أتعامل مع ذاتي؟ وكيف أبني شخصيتي؟!
= نظرت إلى عينيها النجلاوين أبحث عن الإجابة: إنه سؤال صعب حقاً.. ولكن دعينا نبدأ بشيء بسيط علنا نقف على الجواب.
نهضت أبحث في مكتبتي عن رواية شيقة, وأهديتها لها قائلة: أتحبين القراءة؟
- ترددت وتمتمت: لا أدري.. لم أجرب.. وأردفت مسرعة كأنما تريد إرضائي: ولكني سجلت اسمي في إحدى دورات الحاسب.
= جميل. واقرئي هذه أيضاً.. استقطعي يومياً ساعتين لتقرئي فيهما بعيداً عن الجهاز المزعج.. وعندما تنتهين عودي إليّ لنتناقش فيما قرأته.
دعوة
دعوة للابتعاد عن التليفزيون.. دعوة لإسكاته ولو لسويعات قليلة كل يوم.. ولننظر في أنفسنا لنستخرج منها الخير.. ولنبحث عما ضيعناه بجلوسنا أمامه ومتابعة كل ما يأتينا عبره.. فلنغلقه لنجلس سوياً. نتسامر ونتحاور مع أبنائنا وإخوتنا وآبائنا.. فلنغلقه لنقرأ.. لنتعلم.. لنبحث. لنكتشف ذواتنا.. لنحقق أهدافنا.. لنتفرّد.. لنتميز.
لا تخافي من الفراغ أو الملل.. اقرئي.. اكتبي.. ابحثي في مجالك, تميزي في دراستك أو عملك.. ارسمي.. اكتشفي نفسك.. مارسي هواية أو هوايات.. تعلمي المزيد عن الحاسوب والأنترنت, أو اصنعي بنفسك مفارش أو علباً للهدايا.. طرزي طرحة أو فستان.
وقد تنبه الغرب أيضا لأضرار التليفزيون, وأُطلقت هناك دعوات للتحرر منه, والابتعاد عنه. وقد نقل أ/ نزار نجار في كتاب له كلمة رئيس جامعة شيكاغو- التي تشعرنا بالخطر الحقيقي- بقوله: " أرى زمنا يأتي, بتأثير التلفاز, لا يحسن فيه الشعب الأمريكي قراءة ولا كتابة, ويحيا حياة أشبه بحياة الحيوانات!"