على طريق... النهضة الإدارية
الدكتور/ محمد أكرم العدلوني
• النهضة: إصلاح المركبة أم إصلاح المسار... والسائق؟
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه الحكمة والبيان، وزيّنه بالخلق والإيمان وأمره بالعدل والإحسان و كلفه بالخلافة والعمران...وبعد:
بعد الغياب الطويل الذي ما تزالُ تعاني منه أمتنا اليوم، و بعد كبوتها الحضارية التي أدخلتها في سبات عميق حتى أسلمتها إلى مرحلة "الوهن الحضاري" بكل أشكاله و أبعاده.
أصبح لزاماً على أبناء الأمة من علماء و مفكرين و مثقفين و أصحاب قرار، استدراك الأمر و معالجة الإصابة من هذا الوهن.
و لعلّه من نافلة القول أن نقول، إن "الاستدراك الحضاري" يلزمه استدعاء قوي و صريح لـ "مشروع" ينهض بالأمة من جديد... مشروع تتكامل فيه الجهود و تتضافر من أجله الاهتمامات، مشروع يُتيحُ لأصحابه التقدُّم نحو "النهضة" من جديد و اللحاق بركب "الحضارة" التي كنّا روادها يوماً ما.
و لكن أي "مشروع نهضوي" لا تُكتب له الحياة إلا بتصويب المعادلة التي تُسلم مقدماتها إلى نتائجها، و مدخلاتها إلى مخرجاتها.
لا بد من توفر الشروط والمقدمات إذ لا جدوى مرجوة من طرح جزئي يوقعنا في "الأزمة" نفسها التي نعاني منها.
لا بد من توفر "المناخ الثقافي"، و لا بد من الانعتاق من "التبعية الحضارية"، و لا بد من استشعار حالة "التحدي و الاستجابة"، و لا بد من إصلاح "عالم الأفكار" و "عالم الأشخاص" من أجل إنتاج "عالم الأشياء" مستنبَتاً من بيئتنا الثقافية، و متواكباً مع حركتنا التاريخية...
باختصار لا بد من "فقه نهضوي حضاري" يكون بمثابة جسر نعبر من خلاله الحدود، و نحطم به القيود، و ندّك -عندئذٍ- ذلك "الحصار الحضاري" اللئيم على أمتنا، الحصار الذي أسر قوتنا، و قيد عقولنا، و سلب ثرواتنا، و رهن مستقبلنا.
لقد صدق المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله عندما قال: " كل حقيقة لا تُؤثر على المثلث الاجتماعي: الأشخاص، والأفكار، والأشياء، هي حقيقة ميتة، وكل تربية اجتماعية تشترك في هذا المصير العام لا تعني شيئاً إذا لم تكن في الواقع و بما تحمل من معنى، وسيلة فعّالة لتغيير الإنسان و تعليمه كيف يعيش، متجهاً دائماً نحو الأحسن".
• ربما يمكن استيراد ثمار النجاح و لكنَّ نقل أشجاره مستحيل... إنَّها تنمو في الأمة و حسب!:
قبل الحديث المباشر عن "النهضة الإدارية" المطلوبة، وددت أن أضع في محاولتي المتواضعة هذه (من خلال سلسلة من حلقات) إطاراً عاماً للحديث، كي يكون تناول هذا الموضوع الخطير في سياقه الطبيعي و ضمن مساره العام.
إن الإدارة -كغيرها من العلوم الإنسانية- هي علم تطبيقي، إنساني، اجتماعي، تعتبر من علوم "الأدوات TOOLS" أي يستخدمها الإنسان كوسيلة أو كأداة "فعل"، من أجل تحقيق "فكرة أو مجموعة أفكار"، لكي تنتج له "شيئاً أو مجموعة أشياء".
وارتباط هذه الأداة أو العلم هو ارتباط وثيق بمعادلة "النهضة الحضارية" التي نتحدث عنها.
فالغربيون و اليابانيون أو غيرهم من الأمم التي نهضت، لم يسبقونا بإنتاج الأشياء و التقنيات و الصناعات هكذا جزافاً بمجرد أنهم استخدموا أحدث الأساليب و النظم الإدارية، و إنما أدركوا إدراكاً عميقاً سر هذه المعادلة الصعبة -إلا على أصحاب "الإرادة الحضارية"- و الذي هو: قبل الإدارة هناك الإرادة، و قبل الشيء هناك الفكرة، و قبل الأداة هناك الإنسان.
أخيراً ... إننا بحاجة ماسة إلى "منهجية رشيدة" ترشدنا إلى وضع أقدامنا على درب النهوض، و إلى "فقه جديد" يُمكننا من تنزيل فكرنا على واقعنا، فأزمتنا ليست أزمة "منهج" و إنما "أزمة منهجية" (أي تعامل مع المنهج)، و أزمتنا ليست أزمة فكر، و إنما "أزمة تفكير" (أي إعمال للعقل و الفكر)، و أزمتنا ليست أزمة دين، و إنما أزمة تديّن (أي تنزيل للدين فهماً و تطبيقاً).
"إننا بحاجة إلى قوة نفسية عظيمة -كما قال رائد من رواد النهضة المعاصرة- تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، و وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون و لا غدر، و تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع و لا بخل، و معرفة بالمبدأ و إيمان به و تقدير له".
و محال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس و الأرواح و المشاعر و العقول، نزولاً عند القانون الإلهي الخالد:
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم)