النصوص الدالة على تقدير الله لأفعال العباد
- الأحاديث الدالة على أن أعمال العباد جفَّت بها الأقلام وجرت بها المقادير :
روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال : يا رسول الله ، بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن ، فيما العمل اليوم ؟ أفيما جَفَّت به الأقلام ، وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل ؟ قال : " لا ، بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت بها المقادير " .
قال : ففيم العمل ؟
فقال : " اعملوا فكلٌّ ميسر " وفي رواية : " كل عامل ميسَّر لعمله " (1) .
وروى الترمذي في سننه أن عمر بن الخطاب قال للرسول صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه ، أمر مبتدع أو مبتدأ ، أو فيما فرغ منه ؟
فقال : فيما فرغ منه يا ابن الخطاب ، وكلٌّ ميسَّر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء ".
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح (2) .
2- علم الله بأهل الجنة وأهل النار :
وروى البخاري عن عمران بن حصين قال : قال رجل : يا رسول الله ، " أَيُعْرف أهل الجنة من أهل النار ؟
فقال : نعم .
قال : فلم يعملون ؟ قال : كلٌّ يعمل لما خلق له ، أو يسر له " .
وروى مسلم في صحيحه عن علي قال : " كنا في جنازة في بقيع الغرقد (3) . فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مِخْصَرةٌ (4) . فنكّس (5) . فجعل ينكث بمخصرته (6) ، ثم قال : " ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة ، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار ، وإلا قد كتبت شقيّه أو سعيدة " .
قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا ، وندع العمل ؟ فقال : " من كان من أهل السعادة ، فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة " . فقال (7) : " اعملوا فكل ميسر ، أمّا أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأمّا أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة " . ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى - وصدق بالحسنى - فسنيسره لليسرى - وأما من بخل واستغنى - وكذب بالحسنى - فسنيسره للعسرى ) [ الليل : 5-10 ] " (
.
3- استخراج ذرية آدم من ظهره بعد خلقه وقسمهم إلى فريقين : أهل الجنة وأهل النار :
وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الله مسح ظهر آدم بعد خلقه له ، واستخرج ذريته من ظهره أمثال الذر ، واستخرج منهم أهل الجنة وأهل النار .
روى مالك والترمذي وأبو داود عن مسلم بن يسار قال : سئل عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) عن هذه الآية : ( وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين ) [ الأعراف : 172 ] .
قال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال : " إن الله خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ".
فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله الله الجنة .
وإذا خلق الله العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله الله النار " (9) .
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح إلى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفه – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرهم بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قُبُلاً قال : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين - أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا ذرية من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ الأعراف : 172 –173 ] (10) .
وروى أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله آدم حين خلقه ، فضرب كتفه اليمنى ، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر ، وضرب كتفه اليسرى ، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم ، فقال للذي في يمينه : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال للذي في كَفِّه اليسرى : إلى النار ولا أبالي " (11) .
وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر " أنَّ الله - عز وجل – خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل " فلذلك أقول جفَّ القلم على علم الله .
رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو وقال فيه : هذا حديث حسن (12) .
4- كتابة الله لأهل الجنة وأهل النار :
وروى الترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان: فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ فقلنا : لا يا رسول الله ، إلا أن تخبرنا .
فقال للذي في يده اليمنى : هذا الكتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمَّ أُجمل آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً.
ثمَّ قال للذي في شماله : هذا كتاب من ربِّ العالمين ، فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثمَّ أُجمل على أخرهم (13) ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً .
فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان الأمر قد فرغ منه ؟
فقال : سدِّدوا وقاربوا (14) ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل . وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما . ثم قال : فرغ ربكم من العباد ، فريق في الجنة وفريق في السعير " .
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح (15) .
5- التقدير في ليلة القدر والتقدير اليومي :
بينا من قبل أن الله قدَّر مقادير عباده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ودلّ الكتاب والسنة على أن هناك تقديران تقدير حولي وتقدير يومي ، فأما التقدير الحولي ففي ليلة القدر ، ففيها يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر ، وما يقوم به العباد من أعمال ونحو ذلك ، قال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين - فيها يفرق كل أمر حكيم - أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين ) [ الدخان : 3-5 ] .
أما التقدير اليومي فهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق ، قال تعالى : ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ) [ الرحمن : 29 ]
روى ابن جرير عن منيب بن عبد الله عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقلنا : يا رسول الله ، وما ذاك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين .
وجملة أقوال المفسرين في الآية " أن الله من شأنه في كل يوم أن يحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ، ويعز قوماً ويذل قوماً ، ويشفي مريضاً ، ويفك عانياً ، ويفرج مكروباً ، ويجيب داعياً ، ويعطي سائلاً ، ويغفر ذنباً ، إلى مالا يحصى منأفعاله وإحداثه في خلقه " (16) .
6- كتابة ما قدر للإنسان وهو جنين في رحم أمه :
ورد في الأحاديث أن الله يرسل ملكاً للجنين في رحم أمه فيكتب رزقه وأجله وشقاءَه وسعادته ، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن عبد الله ( هو ابن مسعود ) قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : " إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .
فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها " (17) .
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وكل الله بالرحم ملكاً ، فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة . فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال : أي رب ذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ، فيكتب كل ذلك في بطن أمه " (18) .
وروى الترمذي في سننه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟
قال : يوفقه لعمل صالح قبل أن يموت " .
قال : الترمذي هذا حديث حسن صحيح (19) .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ، ثم يختم له بعمل أهل الجنة " (20) .
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة " (21) .
ومما يحسن أن يساق في هذا الباب لما فيه من العبرة ، قصة الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار ، ففي صحيح البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رجلاً من أعظم المسلمين غناءً في غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار ، فلينظر إلى هذا .
فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدِّ الناس على المشركين ، حتى جُرح فاستعجل الموت ، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه ، حتى خرج من بين كتفيه.
فأقبل الرجل إلى الرسول مسرعاً : فقال : أشهد أنك رسول الله .
فقال : وما ذاك ؟
قال : قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه ، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين ، فعرفت أنه لا يموت على ذلك ، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " إن العبد ليعمل عمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة . ويعمل عمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار ، وإنما الأعمال بالخواتيم " (22)